Thursday, March 24, 2016

إنتحار فى مدينتنا

كانت المسافة بين سطح العمارة والأرض التي رحبت به بحفاوة هى أطول رحلة يسافرها.. في الحقيقة هي أول رحلة يسافرها.. فلم يخرج من مدينته البائسة يوما ما ليستكشف العالم ومدنه، والحضارات وناسها، ولهذا السبب قرر ان يكون بحارا ولسبب ما لم يستطع ولسبب ما تحطمت آماله امامه وهو ينظر إليها عاجزا عن انقاذها! تستغرق الرحلة ٣ ثوان فقط، ولكنها في دماغه اخذت عمرا كاملا عاشه.. لم يومض شريط حياته امامه كما يقولون في الروايات والافلام، بل عاش كل تفصيلة وكل يوم في حياته مرة اخرى! شعر بنفسه وهو يخرج من رحم أمه ساخطا باكيا لا يريد الخروج للنور ولا لتلك الحياة التي يعلم يقيناٌ انها بائسة وسيعيشها كحياة بائسة

 

كان يعلم كيف سيعيش حياته وهو فى رحم أمه وكيف سياتي وكيف سيرحل ومع ذلك فقد خرج وعاش ولم يحاول ان يرفض تلك الحياة البائسة !! فقد كان أجبن من أن يكون .


ليس الأن , فقد شاهد كيف عاني الحرمان منذ كان صغيراٌ , شاهد الظلم والطغيان متمثلاٌ فى كل ما يحيط به
شاهد كيف تعذب والده من أجل ان يحصل علي الخبز فى دولة الطوابير العظمي , شاهد كيف تعمد الظابط ان يهين والده , شاهد كيف اصيبت والدته بالمرض ولم يكن يمتلكوا ما يمكنهم الحصول لها علي مكان فى مستشفي من مستشفيات أولاد الذوات !!

تذكر الليلة التي أتي فيها صاحب البيت ليعلن لهم ان بعد اليوم لا مأوي لهم سوي رصيف الشوارع

شاهد كيف تركه أبوه عند باب الشقة البني، ابتعد عنهم لا يعلم إلى أين تاركا خلفه أم وأربعة بنات وهو معهم هناك في ذلك الوقت شاهد أبوه ينزل من الدرج ومع كل خطوة يخطوها يدعس حلما ورديا لابنه الذي جاهد في هذه الحياة من بعده.
لمعت تفاصيل الفقر في عينيه وهو مستمرا في السقوط نحو الاسفلت، نحو جهنم، نحو العالم الاخر ليقابل من هم فى نفس بؤسه. الظلم الذي ذاقه في حياته هاهو الآن يطغى على حلمات التذوق في لسانه، مر كمرارة دواء الكحة، ماهي الحياة عندما لا نعيشها حلوة؟ , وما هي الحياة بدون كرامة ؟

 

أستقيل نعم أنا أستقيل، قبل ان يصيبني مرض او أن أتعود علي المهانة , قبل ان يعتقلني شرطي فاسد او بلطجي ظالم  أستقيل من هذه الحياة وأقرر مصيري بنفسي للمرة الأولى والأخيرة

 

هكذا كان يفكر اثناء مروره بنافذة احدي الشقق عند رن جرس الهاتف ,


تباٌ ترى من يتصل في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ لقد نسيت أن اتصل عليها ؟ وهي بالتأكيد قلقة للغاية

عند تلك اللخظة حاول مقاومة السقوط للهاوية , حارب بكل قوته الهواء الذي كان يضرب جسده بعنف , فجأة تحول الي كتلة تحاول مقاومة الفراغ السابحة فيه .

 

اليوم غير مناسب لأموت , تنتظرني أمي المريضة ذات الوجه الشاحب والأسي المرسوم عليه من شقاء الحياة علي سرير المستشفي لتطمئن علي بقدومي لها او اتصالي


فقط لا يمكنني أن أموت اليوم فكيف نسيت أن اتصل عليها قبل الموت !! “

 

فكر فى أمه التي اصيبت الاسبوع الماضي بالهبوط الحاد وكيف نقلوها الي المستشفي الحكومية وكيف عاني المر والذل من اجل ان يحصل لها علي سرير فى قسم الأطفال !!  وقد رحل مع وعد بأن يتصل عليها ليطمئنها عليه بعد العودة من ذلك العمل الذي لم يخبرها أنه طرد منه لأنه فقط رفض السرقة التي حدثت من حوله


لابد انها مستيقظة الآن تنتظر” 


كان الشعور بأن أحد ينتظره هو أكثر ما يكره , أن يحتاج اليه شخص ما وينتظره ليلبي حاجته , ما كان الأسوء هو أنه غير قادر الأن حتي علي الاعتذار , تقديم توضيح او سبب للغياب .
أمه العزيزة “ست الحبايب ونوارة الاحلام” هي الأن من تنتظره , كره نفسه كره عميق ولكن لحسن او سوء حظه فالاثنان متساويان لم يكن هذا لوقت طويل , فها هو يهوي علي الأرض ويصدم رأسه بأسفلت الطريق وها هو يسمع اصوات عظامه وهي تتحطم وشرايينه والدم يفور منها ويجري ليسري من مختلف قطع جسمه المجروحة


ها هو يشاهد رجله اليمني وهي تطير بعيداٌ عنه , شعر بالدم وهو يجري فى فمه وأنفه , شعر بذلك الدم كأنه نافورة ماء مغلي يخرج من مؤخرة رأسه .
انسلت منه الحياة مع كل نفس وكل زفرة وخرجت ذكرياته واحدة تلو الأخري بسرعة البرق وهي تمر كالخيط أمام عينيه .

تمتم قائلا فى صمت
” مليون مرة أطعم من ذل الحياة , مليون مرة أكرم من قهر وظلم الوطن , مليار مرة أفضل من قهر العيش , مليون مرة أكثر حرية من سجن الوطن ” 


ثم أغمض جفون عينيه قليلاٌ فهو الأن لا يري سوي مقدمات عالم البرزخ


أنني أموت , أنني أموت , أمي ساعديني , أيقظيني من هذا الكابوس المزعج , خذيني فى حضنك , انهضي من سرير المستشفي الأبيض الممل ذاك وتعالي ,, تعالي لتري أبنك الوحيد وهو يفارق الحياة والحياة تفارقه , الحياة التي لطالما لعنها , ها هي تفارقه الأن .. أنا أسف يا امي ولكنني أموت ” 


دمعت عينه لأنه كان يتمني ألا يضطر لذلك , كان يتمني أن يدرك ان الحياة أعمق وأقدس من أن يهدرها هكذا
كان يتمني أن يدرك ان أمه حياة يجب ان يحيي من أجلها
كان يتمني ألا يشاهد قهر الوطن
دمعت عيناه قبل أن تفارقها روحه.. دمعت حزنا على أمه.. قهرا من وطنه
ودمعة كبيرة علي الحياة التي ضاعت والتي كان يعتقد قبل 3 ثوان أنها لا تستحق

ربما لم يكن صديقنا يؤمن أو لم يسمع محمود درويش عندما صاح
” علي هذه الأرض ما يستحق الحياة “

2 comments:

  1. Replies
    1. أليس هناك من يعيش بالفعل هذا البؤس وهذه الحياة ؟

      Delete