Friday, March 11, 2016

ما بين قريتي.. ومدينتهم

الزمان: يوم شم النسيم، العام الماضي
المكان: بيت جدي – دماص (القرية التي ينتمي إليها والداي) – ميت غمر – الدقهلية.
الوصف: العائلة كلها مجتمعة تأكل كل ما له رائحة سيئة، من فسيخ ورنجا وبصل وغيرها. هذا أول تجمع أحضره في شم النسيم، حيث أنني، وعلى مدار ثمانية عشر عامًا، كنت أعيش خارج مصر. وحتى عندما عدت أنا وأسرتي، سافرت أنا للشيخ زايد للالتحاق بالجامعة بينما استقرت الأسرة بدماص.
بعد الفراغ من الطعام جلس الجميع يتسامرون، بينما أحسست أنا برغبة في العودة إلى البيت. وحيث أن أمي كانت ترغب في المكوث، قررت العودة بمفردي بدلاً من انتظارها. لم تكن المسافة طويلة، فقررت أن أقطعها مشيًا. كانت تلك أول مرة أمشي فيها في شوارع القرية وحدي، فدائمًا ما كان يتصادف وجود شخص آخر يقصد نفس الوجهة ليرافقني.
بدأت السير باتجاه منزلنا. مررت في أول الطريق على دكان صغير يقف به شاب في أواخر العشرينات، يمسك منشفة يمسح بها شيئًا يمسكه بيده الأخرى لم أتبينه. لاحظت أن الشاب يتفرس ملامح وجهي بعينيه بطريقة تبعث على الاستغراب، وبعد مرور ما يقرب من خمس ثوانٍ صاح مخاطبًا شخصًا آخر يبدو إنه يجلس داخل الدكان: "هي مين دي يا حسين؟!"
استفزني سلوكه الغريب، ما المشكلة في أن يمر أمامك شخص لا تعرفه؟ ما الداعي لكل هذا الاستغراب؟ أتفهم أن مجتمع القرية يعتبر صغيرًا بالمقارنة بالمدن مما يتيح فرصًا أفضل لسكانها للتعارف وإقامة علاقات وثيقة، لكن ذلك لا يبرر تصرفه الفظ هذا!
أكملت سيري حاملةً في صدري ضيقًا مما حدث، مررت على مجموعة من النساء الجالسات أمام بيوتهن يراقبون الغادي والرائح، وبمجرد اقترابي بدأت الهمسات تنطلق من فم إحداهن إلى أذن الأخرى بينما تحدق أعينهن جميعًا بوجهي. مجموعة أخرى لديهم نفس مشكلة الشاب العشريني؛ لا يتقبلون فكرة وجود شخص لا يعرفون هويته!
طوال الطريق للبيت تواجد العديد من الرجال والنساء الجالسين أمام بيوتهم أو في دكاكينهم، معظم من لاحظت منهم سلكوا نفس السلوك: همسات متسائلة ونظرات استفهامية!
لم يتقبل المكان الذي تحمل بطاقة الرقم القومي خاصتي اسمه، والذي ينتمي والداي إليه، والذي كنت أقضي فيه شهرًا خلال عطلة الإجازة الصيفية طوال سنوات الغربة الثمان عشر، والذي أصبحتُ بعد استقرار الأسرة بمصر أزوره كل أسبوع أو أسبوعين خلال عطلة نهاية الأسبوع، لم يتقبل ذك المكان وجودي فيه، أمارس طقسًا عاديًا جدًا، أرتدي ملابس كالتي يرتديها كل فرد فيهم لا أفخم ولا أردأ. لم يتقبل أن أعود لمنزلي وحدي مشيًا!
في المقابل، أجد مدينة الشيخ زايد، التي أسكنها حاليًا وأرتاد إحدى جامعاتها، تلك المدينة التي لم أسكنها قبلاً ولا توجد أي صلة بيني وبينها غير الجامعة، أجدها تضمني بين ذراعيها وتعطيني حرية تصرف كبيرة. لم ترفض المدينة أنني إلى الآن لم أكون أي علاقة مع الجيران، لم تنزعج من أن جل وقتي أمضيه إما في الجامعة أو في البيت، لم تجبرني على ترك قوقعتي التي أشعر فيها بالارتياح، لم تبد استياءً حتى عندما أعود للبيت في وقت متأخر، لم تفرض عليّ مجموعة من الواجبات الاجتماعية السخيفة ضريبة إقامتي. لا زالت صابرة على سلوكي الغريب على الرغم من أنني حتى لم أعطها وعودًا بالتغيير مستقبلاً.

هكذا باتت الإقامة بدماص عبئًا بحد ذاتها، لا أخرج لوحدي مطلقًا، أحاول ألا أخرج أصلاً حتى تنتهي فترة إقامتي القصيرة. هكذا أصبحت أجد راحتي في الشيخ زايد، في مكان لم أكن يومًا من أهله. هكذا رفضتني قريتي، واستقبلتني مدينتهم! 

1 comment:

  1. جميلة يا ياسمين
    الاتجاه العام في الكتابة بيكون لتمجيد القرى و الحنين لها، أنا بشكرك على شجاعتك في تحدي الاتجاه العام و التعبير عن نفسك بصدق.

    ReplyDelete