Tuesday, March 29, 2016

أنا عندي عشة في الزمالك

يشق نهر النيل طريقه في رحلة هي الأطول لأي نهر في العالم. يبدأها من بحيرة فيكتوريا في وسط القارة إلى أن يُلقي بما تبقى من مياهه في البحر المتوسط. وكما علمونا في المدارس، فهو شريان الحياة في كل الدول التي يمر بها، وبالذات مصر لأن هيرودوت العظيم قد قالها حكمة : "مصر هبة النيل". وبغض النظر عن صلاحية هذا الإدعاء الآن بعد سد النهضة، فلعبور النيل خلال مصر بهذا الشكل تبعات قلما حدثونا عنها، ربما لأنها لا تضيف كثيرا لمفهوم الاعتزاز بالوطن و الفخر بالموقع الفريد ... الخ الخ. فها هي صحراء مصر قد صارت اثنتين، شرقية وغربية يفصل بينهما النيل بشريط أخضر ضيق. وعندما قررت المياه أن تتفرع عند القاهرة، أنشات لنا الدلتا بمحافظاتها، وضمتها جميعا بين فرعيها دمياط ورشيد. صار لدينا أهل الشرقية وما حولها، وأهل الدلتا ويقابلهم أهل الصعيد، وأهل العاصمة القاهرة، يشتركون جميعا في براعتهم في اطلاق النكات الساخرة علي بعضهم البعض.
لم يكتف النيل بهذه التقسيمة الكبيرة، فعلي طول مساره تتفرع مياهه الى فرعين وربما ثلاثة، ثم لا تلبث أن تعود فتتحد الفروع مرة اخرى. فتنشأ الجزر والمستنقعات الصغيرة تحيطها المياه شرقا وغربا. وتتفاوت هذه الجزر في أحجامها، بعضها صغير يقدر بافدنة قليلة قد يملكها أحدهم، وأخري كبيرة تتسع لحي بأكمله. وياحبذا لو وقعت إحدى تلك الجزر الكبيرة وسط مدينة كبيرة. وليس أكبر من أي مدينة مصرية سوى القاهرة، وليس أبرز من تلك الجزر سوى الزمالك.
واسم الزمالك يترادف في أذهان أهل القاهرة بالثراء والرقي. فهو حي المشاهير من الفنانين وأصحاب النفوذ والسلطة، ومقرا لعدد لا بأس به من السفارات المهمة، وتشقه شوارع لاتعرف على جانبيها سوى الفيلات والقصور. هي تلك الجزيرة الهادئة التي قرر أعضاء تلك الطبقة الهروب إليها من صخب وسط العاصمة، يعزلهم عنها وعن مناطقها الشعبية ذلك الممر المائي. ويتصلون بها متى شاءوا عبر أحد ثلاثة كباري: قصر النيل، 6 أكتوبر و26 يوليو.
والمفارقة أن اسم الزمالك يترادف في المعجم لمعنى مخالف تماما يعود لنشأة تلك الجزيرة عام 1372م. وفي هذا الوقت كانت الجزيرة عبارة عن ثلاثة جزر منفصلة قبل أن يقرر النيل أن يجمعهن في جزيرة واحدة. كان الصيادون يستخدمون تلك الجزر كنقطة انطلاق لرحلات صيدهم في النيل، حيث كانوا يقومون بحفظ أدواتهم في "الزمالك" وهي أعشاش صغيرة من البوص والطمي. وبمرور الوقت توافد الأهالي عليها لخصوبة أرضها، وأقاموا في تلك الأعشاش.
وجاءت نقطة تحول تلك الجزر في عهد الخديو اسماعيل، حين قرر أن يبني عليها أحد أفخم قصوره هو قصر الجزيرة ليستقبل بها ضيوفه من ملوك وأمراء أوروبا في حفل افتتاح قناة السويس. أتى بالمهندسين من فرنسا و بريطانيا ليشرفوا على بنائه و تزيينه. وتكلف تشييد هذا القصر ما يضارع التسعمائة ألف جنيه مصري، وهو مبلغ أكاد أجزم أنه أكثر مما صرف في حفر القناة نفسها الذي قامت به العمالة المصرية الشبه مجانية بالفأس والقفة !!!
ومنذ ذلك الحين انتعشت جزيرة الزمالك لتواكب مستوي ذلك القصر بقلبها. فأنشئت الحدائق والمتنزهات، وتكالب على أراضيها الأعيان. وتم انشاء كوبري قصر النيل ليصل بين الجزيرة وباقي القاهرة. وظهرت الفنادق الفاخرة لاستقبال الضيوف. وهكذا حتى صارت الزمالك مكاناً يتباهى من يملك عقاراً بها.
وفي خضم هذا المستنقع الأرستقراطي كما يراه أهل بولاق على الضفة الأخرى من النيل، نجد كلية التربية الموسيقية و كلية الفنون الجميلة التابعتان لجامعة حلوان الحكومية. نجد أيضا ساقية الصاوي وبعض الحدائق العامة مثل جنينة الأسماك والأندلس. لربما شفعت هذه الأماكن لحي الزمالك، فلا زال مسموح للشباب من قاطني كلا الضفتين أن يرتادوها.

1 comment:

  1. جميل جدا يا يوسف :)دي معلومة أول مرة أعرفها. شكرا :)

    ReplyDelete