كنا في
الطريق إلى المنصورة بسيارتنا لقضاء بعض الحاجات، عندما مررنا بجانب شارع عريض وقد
أغلق بألواح خشبية كبيرة مزينة بمجموعة من المصابيح الملونة، في مظهر يوحي بأن
عرسًا سيقام هنا. ورغم أن الأعراس التي تقام في الشارع مألوفة في القرى، إلا أن
هذا كان مختلفًا بعض الشيء. أتذكر العرس الذي أغلق شارعنا عندما كنت صغيرة، والذي
استغلته بعض السيدات للجلوس على امتداد الشارع لبيع اللب والسوداني والترمس وخلافه.
لكن يبدو أن مهمة توفير الطعام للزوار تقدم هنا بشكل أكثر حرفية، حيث يوجد طاولة
كبيرة ممتدة يتجمع حولها شبان بزي موحد أنيق يبدو أنهم المسؤولون عن الضيافة. لا
أبالغ عندما أقول أن المظهر الذي رأيته ينبئ بعرس ربما يكون أكثر أناقة من بعض
الحفلات التي تقام في القاعات الكبيرة. قطع تأملي صوت أخي معلقًا على ما رآه
ولافتًا انتباه من لم ينتبه: "دول عاملين فرح هنا وقافلين الشارع" ليوضح
أبي دون أن تتحرك عينيه اللتان تتابعان الطريق: "فرح مين يا عبيط.. دا
ميتم!"
......
......
"الناس
هتاكل وشنا!" فكرة تطارد الكثير من أبناء بلدنا لسبب لا أعرفه. كنت أؤمن أنها
السبب وراء الكثير من لحظات الفرح التي تنغص بأيدينا نحن. ولن أجد مثالًا يوضح هذا
أفضل من كواليس التجهيزات التي تسبق الزفاف في أي بيت مصري، بداية من النيش عديم
القيمة، مرورًا بأسِرّة الأطفال الذين لم يأتوا للدنيا بعد، وصولاً إلى غسالة
الأطباق التي يمكن أن "تفركش الجوازة كلها قبل الفرح بيومين!" لطالما
سمعت عن الغارمات من الأمهات اللاتي يسجن بسبب مصاريف زفاف بناتهن، ولطالما طرقت
أمهات أخرى باب بيتنا وبيوت أخرى لجمع أي مبلغ يمكن أن تسدد به المصاريف المطلوبة.
كنت أظن أن اضطرار الأم لجمع التبرعات أو للاستدانة لابد أن يكون لتوفير ضرورة لا
يمكن الاستغناء عنها في بيت ابنتها، لكنني لاحقًا اكتشفت أن سقف الضرورة هذا قد
ارتفع ليشمل أشياء تبدو تافهة، كإكمال اثنتي عشرة ملاءة سرير وست وثلاثون منشفة وجه
في بيت لا يوجد فيه غير سرير واحد ووجهين! والمبرر دائمًا: "أنتي عايزة الناس
تاكل وشنا؟ هي مش أقل من بنت خالتها اللي جالها كذا وكذا."
لكن يبدو
أن تلك الفكرة لا تطاردنا في الفرح فقط بل وفي الحزن أيضًا! فهناك من يزعم بأننا لابد
أن نحزن بطريقة تجعل الناس يتكلمون عن ذلك الحزن بسيرة طيبة وإلا فإنهم سيأكلون
وشنا!
أذكر
فيما درست في منهج الفقه بالمدرسة أنه مما يستحب أن يفعله جيران أهل الميت أن
يطعموهم في أيام حدادهم على ميتهم، لأن حزنهم على الفقيد سيمنعهم بالتأكيد من
التفكير في طهو الطعام. وعندما توفي أخو جدي، ولأن كل أقارب أبنائه ومعارفهم
يعيشون في الإسكندرية، فقد قطع المعزون مشوارًا طويلاً في المجيء ومثله في العودة
في ذات اليوم، يومها تجمع في بيت جدي كل عماتي وزوجات أعمامي لإعداد طعام لكل
أولئك المعزين يتناولونه قبل رحلة العودة، بحكم أن مصابنا أخف وطأة من مصاب
الأبناء بطبيعة الحال. كان كل من في البيت إما يحضر الطعام أو يقدمه أو يصنع الشاي
على مدار اليوم.
لكن يبدو
أن الحال تغير، وأصبح بمقدور المصاب أن يرتب لعزاء فاخر رغم حزنه على فقيده.
تفاجأت بذلك عندما كانت تتحدث جدة صديقتي -رحمها الله-: "لما أموت عايزاكم
توزعوا قرص كبيرة وحلوة كده على البلد كلها" وسط تساؤل مني عن أهمية ذلك، وعن
الكيفية التي تمكنت بها من التفكير بموتها بهذه الطريقة، وعن الكيفية التي سيتكمن
بها المصابون من ترك حزنهم جانبًا للبحث عن قرص جيدة لتوزيعها على الناس! ولا زلت
عاجزة عن فهم كيف يجد الابن وقتًا للحزن بينما يتفق على تكلفة أيام العزاء، ولا
كيف يقدم المعزي المواساة وهو يدخل مكانًا يخير فيه بين أن يشرب "كافيه
لاتيه" أو "كابتشينو" أو "موكا". لولا صوت المقرئ في الخلفية
لما استطعت أن تحدد ما إذا كان يحضر مراسم عزاء أو يجلس في كافيه!
عندما
نجحنا بجدارة لأن نحول أي مصدر فرحة لعبء ثقيل بحرصنا المبالغ فيه على أن نفرح
بطريقة تبهر الناس، رأينا أن ذلك لا يكفي، لماذا نسلب أنفسنا حق الفرحة البسيطة
الغير مكلفة فقط؟ لماذا لا نسلب حق الحزن أيضَا، فنجعله ساذجًا غير مقنع، ونحوله لعبء
هو الأخر؟ لماذا لا نقرن الحزن الجيد بكوب موكا ساخن، ليتحول توفيره إلى ضرورة لابد منها، وإلا "الناس هتاكل وشنا وهتقول إننا مش زعلانين ع المرحوم"؟!
جميل يا ياسمين.. حبيت إن عربية باباكي بتبدأ الحكايات :)
ReplyDelete