Sunday, June 5, 2016

أااكل أااكل أااكل

"رد بصراحة: آخر مرة أكلت فيها اللحمة إمتى؟ من حقك أن تمتنع عن الإجابة وتكتفي بالبكاء.."
لم أنتبه لعبارة عمنا جلال عامر – الله يرحمنا زي ما رحمه- إلا عندما أتيت لأكتوبر! كنت أقرأها من قبل فأضحك، أو أحزن على أحوال الغلابة في البلد البائسة، ولم أكن أعرف أنني سأكون من أولئك الغلابة في البلد البائسة..
أبدأ منين؟ لم أكن أعرف بالطبع أنني سأغترب عن أهلي وأعيش وحيدة، لو كنت عرفت لتركت المدرسة وتفرّغت طوال حياتي لمذاكرة كتب الطبخ وتطبيقها، مهابة أن يصيبني في يوم ما أصابني بالفعل. في بداية غربتي اشتركت بكافيتريا الجامعة، كنت ما زلت مدللة وصغيرة. بعد فترة شعرت أن قيمة الاشتراك بالكافيتريا ليس هينا فتفضّلت –بروح المغترب اللي بقى عارف قيمة الجنيه- بسؤال أمي ألا ترسل مصروفات الكافيتيريا لأنني سأقوم بالطبخ بنفسي!
يمكنك بالطبع تخيُّل الأحداث. لن أخبرك إلا بأنني عندما أنجزت طبق "مكرونة" سليما كاملا وطبق لسان عصفور طبخته لي صديقتي "لكنني قلّبت الماء"-أقمت احتفالا لا أظنني سأقيمه لأحد أبنائي عند تخرجه من الجامعة!
سارت الأمور بشكل مُبهم فيما بعد، ظللت أطبخ المكرونة ثم المكرونة ثم المكرونة حتى احمرّ جسدي من بقايا الصلصة المُبعثرة وذاب جسدي من كثرة الملح. بدأت أبتعد عن المكرونة تدريجيا وأذهب للوجبات الجاهزة. جميلة الوجبات الجاهزة، مشكلتها الوحيدة أنني أدفع فيها المال! عشت فترة طويلة على الوجبات الجاهزة. لم تكن بالفترة السعيدة بالتأكيد. اعتدت أن أُجهز على كل أموالي في منتصف الإسبوع ثم أتصل بوالديّ أن يرسلا لي المزيد، مع الوقت خجلت من نفسي وأدركت أنني كبيرة ومسئولة ولا يجوز أن أطلب المال كالأطفال. الحل الوحيد كان أن أستغنَ عن الوجبات الجاهزة-بعد أن استغنيت عن المكرونة- وأذهب للجبنة. الجبنة جميلة ومتعددة الأنواع ويمكن أو تؤكل مع أي شيء.
تسألني ما فائدة سرد تلك الحقائق البائسة التي بالطبع لا تريد أن تعرفها؟ أنا فقط أحاول أن أشرح لك كيف ارتبطت معي أكتوبر بكل معاني الحرمان، وكيف حصلت على لقب "محرومة" وسط أهلي وأقربائي. إن كانت أكتوبر تمثّل لي أشياءا جيدة فإنني بالتأكيد لن أغفر لها حقيقة أنها تمثل لي (الجوع)! أعود في إجازة فيكون أول ما أفعله أن أدخل للمطبخ فآكل كل شيء .. كل شيء. أعود إلى أكتوبر فلا آكل سوى وجبتين في يومين أو ثلاثة! المشكلة في المقام الأول مشكلة وقت، بالطبع لن أجلس ساعة بجانب الفرن أطهو الطعام الذي أرسلته أمي، لكنني سأكون سعيدة جدا بالتهام عدة أرغفة من الجبن بدلا من ذلك.
مع الوقت يختفي لديك مذاق الأشياء، تنسى أن العالم أتى لنا بالمحشي والمشويات والبشاميل، تنسى أن هناك كائنات مثل السمك تؤكل وتقضي يومك مسائلا نفسك "هو احنا كنا بنجيب حاجة مهمة باين مالبحر..."، تنسى أحمر الصلصة وأخضر الخضار وبنيَّ الدجاج، تستحيل لديك كل الألوان أبيض وتنسى كيف كان شكل العالم قبل اختراع الجبن. ثم بعد كل ذلك تقابلك خالة أبيك التي تظن نفسها مرِحة وترمي إليك بالمزحة التي ستعتصر قلبك بعد قليل لشدة صدقها الغيرهزلي: "هاها إيه ده مالك بقيت عامل شبه اللي جايين مالصومال كده ليه؟" .. هاها، عسل يا طنط.

No comments:

Post a Comment