لم تشرقْ الشمس كاملةً بعد. أرسلت لنا بعضًا من أشعتها كي تفترش لها الطريق أولا. أفتح نافذتي وآخذ نفسًا عميقًا حتى لأظن أنني أجهزت على كل الهواء من حولي .. عبَق الصباح! أعشق هذه الرائحة، أعشقها لدرجة أن أُطلَّ برأسي خارج نافذتي كل صباح ما يقرب من نصف ساعة لا أفعل شيئًا سوى مِليء رئتيّ بالهواء. أظل أستنشق تلك الرائحة وكأنني أريد أن أملأ جسدي كله بها وليس فقط رئتيّ. هي أشبه ببقايا لحريق قش الأرز. اعتدتُ أن أستنشقها كل صباح في صغري وأنا أنتظر باص المدرسة. وكبرت واعتدتُ أن أستنشقها في كل مرة أشتاق فيها لأيام الصِغَر. غريبة هي تلك الرائحة؛ تجعلني أشاهد أصباح المدرسة وكأنها أمامي بكل تفاصيلها، فها نحن هناك نقف جميعا؛ إخوتي وأصدقائي وأنا، في انتظار باص المدرسة تحت بيتنا القديم. أرى كل ملامحي الصغيرة بوضوح، عينيّ النصف نائمتين وشعري المرفوع وزمزيتي الندية.
غريبة هي حاسة الشم، غريبة في قدرتها على استحضار ذكرياتنا المدفونة في قيعان عقولنا، فنشاهدها وكأنها تمثُل أمامنا بالظبط. أحيانا، يضع أبي عطرا كان مُعتادًا على وضعه منذ سنين. حينها أجدني فجأة في السعودية! هنالك حيث عشت صغيرة. أرى أمامي أبويّ صغيرين مازالا، لم تشُبهما الهموم، وأرى نفسي ألهو في صالتنا الواسعة شبه وحيدة، عندما لم يكن أخي وأختي قد جاءا إلى الحياة بعد.
أظن أن كل مكان تطأه قدمانا يصبح له عبقه الخاص. عبَق يظل عالقا في أذهاننا إلى الأبد. وكأن كل مكان يحفر لنفسه حفرةً داخلنا ليطمئن أننا لن ننساه مهما تعاقبت الأيام. أكتوبر أيضا لها رائحة مميزة، تراب مختلط برائحة ورق الشجر الذي يزيّن الشوارع كلها. أعتاد هذه الرائحة مع مكوثي هنا لكنني أستطيع تمييزها جيدا عند عودتي من إجازة طويلة نسبيا. أحيانا أضيق بالتراب المنتشر هنا وأشكو لأمي أنني أسكن صحراء، لكنني أعلم جيدا أنني سأفتقد هذه الرائحة كثيرا عندما أغادرها، تماما كما افتقدت سابقاتها. بعد عشر سنوات، ستأتينا رياح خماسين قوية محملةً برمالٍ وأتربة تغلق أعيننا وتكمم أفواهنا، سيختبيء المارة في الأبنية وتتصايح النساء وتغلق المحلات أبوابها، لكنني سأقف هناك، في شرفتي، وحيدةً حزينةً شاردة، أستنشق عبَق التراب وأبكي على الأيام الجميلة البائدة.
No comments:
Post a Comment