Saturday, April 23, 2016

سؤال عن المدينة، بلا إجابة!

مشهد (1):
كنت أجلس في المقعد الأمامي في السيارة بجانب أبي الذي اصطحبني معه لإنجاز بعض الأعمال في مدينة أكتوبر، عندما شاهدنا عاملين من عمال النظافة يقفان على جانب الطريق المزدحم بالسيارات الغادية والرائحة، يرفع كل منهما يده إلى فمه ويخفضها بشكل متكرر. علق والدي: "شايفة اللي واقفين على جنب دول؟ بيحركوا إديهم بالمنظر دا بمعنى إنهم عايزين ياكلوا يعني، على أمل إن أي حد معدي يديهم حاجة. تلاقي بقى شاب من الشباب الصيع بتوع اليومين دول معاه عربية آخر موديل وفرحان بنفسه أوي يشاورلهم ييجوا وراه على جنب الشارع عشان يعرف يقف ويديهم فلوس، ولما يروحوا يفتحلهم المحفظة بتاعته ويوريهم إنها فاضية وإنه معوش حاجة عشان يديهم، متفهميش إيه اللي بيبسطهم في كده!" لم أصدق كلمة مما حكى والدي وأخبرته بأن من الممكن أن يكون قد أخطأ فهم الموقف لأي سبب، فإذا بي أرى أمامي أحد الشباب الصيع بتوع اليومين دول يقود سيارته الفارهة ويشير للعاملين ليتبعانه، أحدق النظر لأجد أنه يريهم محفظته الفارغة بالفعل، يتأمل وجوههم المستاءة ثم يركض بسيارته منتشيًا! ينظر والدي إلي ويتساءل: صدقتي؟ ولا أرد.

مشهد (2):
أشرت للـ "سوزوكي" الآتية والتي ستحملني من أمام مقر سكني حتى محور 26 يوليو حيث يمكنني أن أركب وسيلة أخرى لأصل إلى الجامعة. يقف العم العجوز الطيب سائق السوزوكي لأركب. في الطريق يحتاج السائق إلى إعطاء الباقي لأحد الزبائن ولا يجد معه "فكة"، فيقف جانبًا بجوار سيدة مسنة تبيع الجرائد ويطلب منها فكة عشرة جنيهات، فترد عليه قائلة: "لا معيش أي فكة، معيش فلوس أصلا، لسة واحد سارق مني خمسين جنيه، الباشا اللي معاه عربية مش عارفة بكام يسرق مني أنا خمسين جنيه، بيقولي معاكي فكة مية اديتله خمسين ولسة بدور على خمسين كمان لقيته طار، ربنا ينتقم منه."

مشهد (3):
كنت جالسة داخل سيارة "سوزوكي" مجددًا، لم يكن في السيارة غيري انا والسائق وراكب آخر يجلس على الكرسي المجاور للسائق، كان الراكب يتحدث مع السائق عما أظنه مواقف يصادفها بحكم ووظيفته التي لم أتأكد من طبيعتها بشكل قاطع من خلال ما سمعته. ليس هذا مهمًا على أي حال، المهم هو ما جاء على لسان ذلك الراكب: "الفلوس المزورة بقت كتير أوي ومنتشرة، والمزورين كمان بيعرفوا يصرفوا الورق المزور دا إزاي وفين بحيث يبقوا متأكدين إنهم مش هيتمسكوا، عارف بيعملوا إيه؟ يروحوا لعمال النظافة الغلابة دول، يقف بعربيته قدام حد فيهم مثلا ويسأله ملقيش معاك فكة مية يا حاج؟ يقله لا والله اللي معايا ميكملش مية، يقوله طب شوف كده هما كام، يطلع فلوسه ويعد يلاقيهم سبعين، يقول مش مشكلة هاتهم وخد المية المدام عايزة تدي للأولاد حاجة، وطبعًا العامل المسكين يتبسط! يبقى العامل من دول معاه مية وخمسين ولا متين جنيه يتبدلوا بورق ولا ليه أي قيمة."
...

على الرغم من احتمالية وجود سيناريو يقول بأن المحتالين في المشهد الثاني والثالث ليسوا أثرياء بالفعل وإنما يقومون بعملهم ضمن تشكيل عصابي محترف يستخدم الثراء ليقتل شكوك الضحية، فإن هذا لا يبرر اختيارهم لتلك الطبقة الفقيرة لممارسة ذلك العمل! لماذا لا تختار غنيًا لن يؤثر فيه مبلغًا صغيرًا تسرقه؟ لماذا لا تقود سيارتك باتجاه "هايبر وان" القريب منك وتشتري ما تريد وتدفع نقودك المزورة وتمضي باحتياجات بيتك الأسبوعية المجانية؟ لماذا تختار العامل البسيط الذي لا يملك سوى مئة جنيه يصرفها على احتياجاته واحتياجات أسرته لشهر كامل وتقرر أن تأخذ هذه المئة منه؟ لماذا لا تحاول أن تكون أكثر إنسانية في احتيالك؟ لماذا لا تكون محتالا فقط بدلا من أن تكون محتالا وقذرا في نفس الوقت؟!

أما إذا استبعدنا هذا السيناريو، ونظرنا للمشاهد الثلاثة كما تبدو، فسنجد أنه في جميع المشاهد كان الغني يمارس سلطته وسطوته على الفقير بدون سبب واضح! شاب يُمنّي فقيرًا بإعطائه مبلغًا من المال ثم لا يعطيه شيئًا، فقط ليرى وجهه لحظتها! شاب آخر يسرق خمسين جنيهًا لا يحتاجها من سيدة تتعب لتحصل على ذلك المبلغ، فقط ليثبت لنفسه أنه قادر على فعل أي شيء دونما محاسبة من أحد! رجل يختار مسكينًا لا يعرف المحاكم والقضايا ليمرر من خلاله عملات مزورة دون تفكير في الضرر الذي سيلحقه تصرفه هذا بالرجل وأسرته أسابيعًا كاملة! ما الذي تقوله المدينة لهؤلاء الأغنياء لتجعلهم يرون في الفقراء صيدًا أو لعبة يتسلون بها؟ ما الذي يجعل الغني يتعامل بمبدأ "القوي يأكل الضعيف" وهو يعيش في مجتمع لا يستغني عن وجود أولئك الفقراء، فقير يخبز له وآخر يصلح سيارته وثالث يتولى أعطال حمام منزله ورابعة تعتني بصغاره عندما تغادر زوجته المنزل وخامسة تطهو له وسادسة تغسل ملابسه، ... إلى آخر الاحتياجات اليومية التي لن يستطيع توفيرها بنفسه؟ ماذا في خطاب المدينة يجعل الغني قادرًا على عزل مشاعره ببراعة ومنع عقله من أن يتخيل نفسه مكان من يمارس عليه قوته؟ فكرت في الإجابة طويلاً، والواقع أنني لم أجدها! 

1 comment: