"أثقل
ما في السفر أن فيه فراق الأحباب"
أمام العمارة التي يُفترض أن أسكنها بدءًا من
اليوم، تجلس أمي في السيارة وتبكي، أقف أنا أمام السيارة وأبكي أيضا. كانت لحظة
الوداع إن صح التعبير. في الغد أبدأ أول أيام الجامعة وفي الغد أبدأ حياةً جديدة
بعيدةً عن أهلي وأصدقائي. لكنّ أمي لا تريدني أن أذهب، لا تريد حتى أن تنزل من
السيارة لتودّعني، وعليه فإنها تبكي وأبكي أنا أيضا. في الأعلى، كان هناك مجموعة
من الغرباء يحاولون تهدئتي. سألني أبي للمرة الأخيرة: "متأكدة إنك مش عايزة
تروّحي معانا وترجعي كليتك؟" -"أيوة"، أجبت من وسط دموع وشهيق.
حسنا، هكذا كان يومي الأول في حياتي الجديدة.
قاطعتني أمي أول شهر من الجامعة؛ لم تكن تريدني أن أبتعد عنها بأية حال وأخبرتني
خالاتي فيما بَعد أنها قضت هذا الشهر بأكمله باكية، تبكي على فراشها وتبكي على طاولة
الغداء وتبكي في المطبخ! أما أنا، فكنت أتحسّس بأناملي حياةً جديدة لا أدري عنها
شيئا. أنا، الفتاة المُدللة التي يُنجز لها والداها كل شيء، سأواجه الآن الحياة
وحدي! بدأت الصعوبات في الظهور من أول يوم، تنبّهت فجأة لحقيقة أنني سأسكن الغرفة
وحدي. في بيتنا هدّ أبواي جدارًا يفصل بين غرفتين كبيرتين لتَسَعاني أنا وإخوتي،
لم يتناقشا أصلا في أن يفصلانا عن بعضنا البعض. الآن سأنام وحدي، بلا إخوتي وبلا
أبَوَي. فتحتُ باب الغرفة، أشعلت كل الأضواء، أدرت القرآن بجانبي، واستغرقت في
النوم. عند الفجر استيقظت ولم أستطع النوم ثانية. في الغرفة المجاورة كانت تجلس
والدة صديقتي التي قررت أن تظل معها في أول أيامها بالغربة. جلستُ وقبل أن أنبس
بأية كلمة سألتني بتلقائية: "شروق، انتي كان فيه حد بيحكيلك عن العفاريت
وانتي صغيرة؟" بعد أيامٍ قليلة علمتُ أنها محقة؛ لم تكن المشكلة أنني لم أعتد
النوم وحدي ولكن المشكلة الحقيقية أنني أخشى العفاريت!
بالطبع كان هناك من يحكي لي عن العفاريت وأنا
صغيرة .. أعني، من الذي لم يُحكَ له عن العفاريت صغيرا؟؟ لكنّ جدتي لا يمكن أن
تكذب أبدا. هي أخبرتني أن "الندّاهة" أخذت جارهم يومًا ولم ترده للحياة
ثانية، أخبرتني أيضا عن جارهم العجوز الذي رآه جدي وهو عائدٌ من عمله ليلا وألقى
عليه التحية وتحدث معه، ثم اكتشف في اليوم التالي أنه ميت من خمس سنوات!
بدأ عهدي مع الكوابيس، تعثّرت أيامي بسبب
أنني لا أستطيع النوم ليلا وإن نمت أستيقظ فجأة على كابوس وأصوات أقدام تسير في الشقة.
لم أكن أريد أن أُفصِحَ عن الأمر أو أطلب المساعدة؛ فمن يسكنون معي غرباء أولا
وأخيرا، ثم أن لا ذنبَ لهم في أنني أخشى العفاريت. لكنّ ذلك الكبرياء كله خانني
يوما ما، عندما رأيت كابوسا شعرت أنه حقيقي فأخذت وسادتي وغطائي وسِرتُ إلى الغرفة
المجاورة في خجل .. "مُنى .. هو انا ممكن انام جنبك؟ أنا مش عارفة أنام في
أوضتي .. "
لا أعلم إن كنتَ انتبهتَ أم لا لحقيقة أنني
لم أتحدث إلا عن مشكلة واحدة بَعد .. لكن ماذا عن الحياة نهارًا؟ ماذا عن الطعام؟
المواصلات؟ الغسيل والتنظيف والطبخ؟ حسنًا، ربّما أعرض كل هذا في المرات القادمة.
سأُطلعكَ معي يا عزيزي –واسمح لي أن أفترض أن هناك من يقرأ هذا أصلا- على الظروف
التي ساهمت في تشكيلي على مدار ثلاث سنوات في تلك المدينة الكبيرة التي لا أدري
عنها شيئًا، وكيف تحوّلتُ من تلك الفتاة المُدللة التي أعطت سائق التاكسي مرةً
خمسين جنيها من الحصري للجامعة فقط لأنه طلبها، إلى هذه المرأة الكبيرة التي
تتسوّق كل أسبوع وتتقاتل يوميا مع سائقي الميكروباص ..
هناك من يقرأ يا عزيزتي :)
ReplyDelete