من 1002 يوم كان في مذبحة رابعة الشهيرة مش محتاج اتكلم عنها، الكل عارفها و بيدينها اكيد.
بينما من 1000 يوم كان مذبحة رمسيس المش شهيرة اوي. الحقيقة ان اليوم ده كان من أصعب الأيام في حياتي شخصيا. بينما الناس كانت نازلة تطالب بحق اللي ماتوا بدم بارد، كان الكلاب لسه مكتفوش من الدم، لسه كان عندهم عطش لدم أي واحد ينزل يعترض.
رغم بشاعة اليوم ده، رغم الآلآم النفسية و الجسدية اللي الناس ابتلوا بيها اليوم ده _و محدش هيحس بده غير اللي كان موجود يومها_، رغم حصار الجامع، رغم ضرب النار علي المئذنة، رغم حصار عدد يفوق ال 200 300 واحد حسب ما اذكر داخل مسجد الفتح، رغم اقتحام البلطجية للمسجد كأنه وكر مخدرات "غرزة" من اللي بيدخلوها كل يوم عادي، رغم ترويعهم لستات و رجالة و أطفال كانوا متحاصرين جوه المسجد لساعات، رغم اقتحامهم للمسجد زي البقر و اعتقال كل اللي كان جوه، رغم كل الوقاحات و الاهانات دي، فانا مش هتكلم عن القصة دي خالص، لاني معشتش لحظات الجامع و مكنتش جواه.
بينما في قصة تانية كنت انا طرف مباشر فيها، قصة المنكسرين، قصة اللي مروحين بعد يوم من كامل من بعد صلاة الجمعة لحد ما يقارب الساعة 9 بليل في حالة أشبه بحالات الحرب، لو كانت الحرب بنفس القسوة دي.
حتي مشهد الضرب مش مهم، النار اللي بتضرب عليك مش مهم، الطيارات اللي فيها رشاشات بتلف علي كل الناس كده، بتقتل بالجملة و من علي ارتفاع صغير مش مهم، قسم الأزبكية اللي ضرب الناس ع الكوبري بالحي مش مهم، الناس اللي اتحاصرت ع الكوبري بين الطيارات و بين قسم الازبكية و في الاخر اضطروا ينطوا من ع الكوبري مش مهم، صاحبي اللي حكالي ازاي سمع زنة الرصاصة جمب ودنه مش مهم، كل ده مش مهم، كل ده ممكن يكون اتكرر قبل كده، او بعد كده، او ممكن يكون متكررش بس ده شئ مش صادم زي الباقي.
في مشهد أهم بكتير، كانت لحظات الانسحاب، بعد يوم منهك، مفيش طاقة للمشي أصلا، في حين ان مفيش مواصلات عشان الناس سادة الأفق كله. كان لازم نمشي مشوار طويل حبتين كده (علي الطريق الرئيسي) من رمسيس لحد فين منعرفش بس لازم نمشي و مينفعش نقف هنا عشان مفيش فايدة و مفيش جديد هيحصل و لو استنينا هنتحاصر في المكان ده.
انطلقنا جماعات، الحقيقة خرجنا في ما يشبه المسيرة الكبيرة، كان منظر شبيه بمنظر نزوح اللاجئين، المتبهدلين و حالتهم يرثى لها. خرجنا في جماعات كبيرة ظنًا ان ده ممكن يحمينا من جماعات "المواطنين الشرفاء" اللي وصل لنا انهم منتظرينا.
كان طريق الخروج يمر عبر الزاوية، و ما أدراك ما الزاوية! منطقة الزاوية الحمراء في احد اتجاهات القاهرة الاربع، حيث شهرتها سبقاها هي و جاراتها، مناطق خلينا نقول البلطجة و الشم و السلاح و المخدرات، طول عمرنا نسمع عن الزاوية و ان اللي بيتخانق مثلا هناك مبيرجعش سليم ده لو رجع أصلا، بس اللي سمع عمره ما كان زي اللي شاف.
طريقنا الى الزاوية لم يكن معبدا بالورود، ولا كانت الناس بتحدف علينا الورق الملون ده مساندة لينا او تخفيفا علينا من اللي حصل يعني و تأزير و دعم معنوي للمناضلين من أجل الحرية و بلابلابلا، يعني لا كانوا بيضربوا بالخرطوش الله ينور. يعني كانت اول مرة اشوف اهالي بتضرب بالمنظر ده، كانوا نايمين علي بطونهم فوق الكوبري اللي احنا هنعدي من تحته المفروض ، و السلاح مفرود ادامهم و بينشنوا، كانوا بيصطادوا عصافير تقريبا! و مش بس ع الكوبري، ده كان بطول الطريق.
كان الطريق كله مناوشات لحد ما دخلنا الزاوية المحروسة. الصراحة اكرمونا اخر كرم، و قاموا بالواجب و زيادة.
من برا خالص من عند نهاية الطريق المعروف و بداية الرحلة عبر المجهول داخل أراضي الزاوية الشقيقة كان الطفل من بين 10-12 سنة يحمل سكينة او خنجر، بينما شقيقه الذي يكبره 13-17 سنة كان بيحمل "فرد - طبنجة محلية الصنع"، بينما من هو اكبر من 18 سنة كان بيحمل آلي، الالي ده اللي هوه الرشاش يعني، يتهيألي مفيش حد ميعرفش دي.
المهم انهم تقريبا كانوا في انتظارنا، عارفين ان في ناس جاية ، و جهزوا حالهم و مستنيين.
المهم انه علي المدخل كان في تفتيش للشنط و تفتيش شخصي، من الطفل اللي عنده 11 سنة و شايل سكينة اه، و من اخوه الاكبر بطبنجة، و من اخوه الاكبر بالالي. اخوك المواطن ده كان بيشاور عليك بسلاحه و يقولك افتح الشنطة دي، بيدوروا علي سلاح تقريبا، ما علينا.
مش بتتفتش عند المدخل و خلاص، لا انت بتتفتش كل 3 متر تقريبا، من واحد شكل. و انت وحظك علي حسب سن اللي بيفتشك نوع السلاح اللي انت بتتهدد بيه هيبقي ايه. كان معرض اسلحة جميل الصراحة. ثم فجأة في وسط مبتتفتش تسمع ضرب نار، في عدة طلقات اتضربت في مكانٍ ما جمبك بحوالي 100 متر، و كل البلطجية بيجروا زي الجراد باتجاه نقطة معينة، مين ضرب مين اتضرب، متبصش عشان متضربش زيه. طب حصل في الشخص الاشخاص دول ابه متعرقش برضه، طب غلطوا في لبه متعرفش، بتتخيل في تلك اللحظة يعني انا لو شكلي معجبش واحد من الناس دي و قرر يتهور مثلا هيبقي ايه مصيري؟ التفكير عموما في اللحظات دي وحش جد، ممكن ناس تكفر بسبب مواقف زي دي. بعد ما نعدي بمرحلة التفتيش المتتالي يمكن 30 40 مرة مثلا لدرجة اني طلبت من اخويا يسيب الشنطة مفتوحة، "انت هتقفل و تفتح كل 10 ثواني كده! سيبها يا عم".
تنتهي المرحلة ولا زلنا في عداد الأحياء. ثم يقودنا واحد او جماعة منهم. يقولك طريق خروجك ازاي، معلش الاصول اصول و مش هتتوه هنا. غالبا مش كرم منهم، ده كان لانهم عايزين يخلصوا من المناظر دي. قاد احدهم مجموعة كبيرة كنت انا منها في طريق منعرفوش في حواري منعرفهاش علي أمل الخروج من هذا الجحيم. تتابع اتصالات ابي و امي، انتو فين، انتو فين انتو فين. مكناش بنرد عشان مفيش رفاهية انك تسيب واحد يفتشك و انت مش مركز معاه، يمكن يفتكر بتقل منه و " انت مقدرتنيش يا زميلي، يبقي اخرك طلقة او حتي يعورك بخنجره". بعد مرحلة التفتيش رديت، كنا يدوب ابتدينا نتحرك ورا المجهول الى ما نتمنى انه ميكونش مجهول برضه.
رديت: ايوه احنا في زفت الزاوية، *بوطي صوتي* بنعمل ايه في الزاوية! اكيد مش بنتشمس في الزاوية، احنا متحاصرين و البطجية في كل حتة و مش عارف اتكلم، *بتعصب و بزعق* ممكن متتصلوش بقي تاني! لحد ما نشوف هنخرج من المخروبة دي ازاي!!! مش عارف انا فاكر الحوار ده ازاي بالنص كده، سبحان الله!
كنت اوقح مرة اتكلم فيها مع ابويا بالمنظر ده ربنا يسامحني، بس يعني مكنش في اعصاب اصلا و لا كنت بفكر انا بتكلم ازاي اصلا، من ثانيتين كنا هنموت، و مش عارفين بعد ثانيتين هنبقي فين.
نوصل لحد مكان يتركنا فيه الشخص المجهول و يقولنا امشوا في الطريق ده طوالي، و يرجع.
نمشي في الطريق الطويل كمجموعات كبيرة بالعشرات برضه، ندخل وسط منطقة مش فاكر اسمها بس هيا زي الزاوية تقريبا، يبتدوا يوقفونا بنفس الطريقة، كل ناصية عليها مجموعة بمختلف أنواع الاسلحة يفتشوك، بعد مشي حوالي ريع ساعة نوصل مكان نلاقي ناس غريبة تانية بتعزم بمية، ناس منزلة "كولمان" مية كبير في الشارع و بتقولنا اشربوا، شئ غير متوقع و تغير مفاجئ، و الناس شايلة سلاح ع الناصية اللي ورا ب 50 متر! خفت اشرب بأمانة مكنش عندي استعداد ان يبقي احتمال اموت مسموم!! كنت مشربتش من ساعات مع كل التعب و الضرب و الحصار ده بس قررت اني استحمل عشان مموتش بالطريقة دي يعني. طبعا هتحس اني مكبر الموضوع، بس بعد اللي بتشوفه من ناس ممكن تتوقع منهم اي حاجة. مكنتش اعرف انه ممكن يكون في ناس مختلفين فجأة كده. التغير كان سريع فعلا و كنت متخيل دي نفس المنطقة و نفس الناس.
بعد مشي حبة منعرفش اد ايه وصلنا اخيرا لمنطقة نعرفها تسمي المطرية. ايوة انا اعرف الحتة دي و اعرف الطريق ازاي للبيت من هنا. اخيرا في أمل نوصل البيت اهو، نقف، نركب ميكروباص، ننزل عند ألف مسكن و منعرفش قوات الجيش اللي قاطعة الطريق في الحتة دي هتعمل معانا ايه. ده اخر مكان يقدر يوصله الميكروباص في حظر التجول المفروض، ننزل نتمشي مسافة 300 متر وسط الاسلاك الشايكة، بنحاول منخليش حضرات الظباط و العساكر يشكوا فينا، كنا 5 اصحاب. وصلت جارتنا بعربيتها علي الناحية التانية من الاسلاك الشايكة معاها ام واحد منا و رجعوا بينا حد البيت في حوالي الساعة الثانية فجرا.
نرجع نلاقي اجتماع للأهالي كلهم في بيتنا، الامهات مبهدلة نفسها طبعا كعادة الأمهات، و نظرات الوعيد الأبوي بتخترق الواحد عشان المأساة تكمل علي خير.
الفكرة بقي: انك خارج من مأساة لمده 8 ساعات عشان تدخل في مأساة تانية لمدة 3 ساعات في منطقة مجهولة، حيث السلاح كان اقربلك كتير المرادي، و تمشي ورا واحد من اللي كانوا هيقتلوك من شوية و مش عارف هيوديك فين، و معندكش الخيار انك تخرج من المجموعة و تمشي في طريق تاني لوحدك، متعرفش انت هيحصلك ايه تاني، ثم تركب مواصلات مش عارف مين هيوقفك و هيحصل ايه عشان توصل البيت بعد 13 ساعة معاناة، حيث احتمالية الموت أكتر بكتير من احتمالية النجاة.
جدير بالذكر ان كتير من اصحابي في اليوم ده راحوا ما بين معتقل و مصاب، في ناس مشيت في مجموعات تانية ورا شخص غريب تاني لحد ما وصل بيهم وسط مدرعات الجيش، سلمهم و مشي. صاحبي حكالي عن مجموعتهم اللي اعتقلت كلها ما عدا هوه عشان هرب و راح استخبي في مدخل عمارة في المطرية لحد تاني يوم الساعة 7 الصبح عرف يخرج و يركب عشان يروح هوه و اخوه الصغير اللي كان طالب اعدادي، و صاحبي التاني اللي كان معاه في المجموعة و مخرجش من المجموعة اعتقل و قضي نص الثانوية في سجن طرة.
انا ليه حكيت عن قصة الزاوية، و محكتش قصة ال 8 ساعات!
عشان الصدمة، انت بتحارب عشان ناس، عشان حياة أفضل، عيشة أكرم، عشان الغلابة و اللي ملهومش ضهر، عشان الفقرا ياكلوا و يتعالجوا باحترام، عشان الناس تتعامل بآدمية في الاقسام عشان تاخد حقك كمواطن، عشان متعيشش و تموت تحت الجزمة، و شوية كلام تاني حلو كده، بس للأسف الالواقع مش بنفس الجمال ده، هتفاجئ ان اللي انت بتحارب عشانهم هما سكينة في ضهرك، دول بيقتلوك، دول مستعدين يموتوك في لحظة، فاكرينك عدو الوطن بقي و بتاع، و الظابط اللي مديهم بالجزمة بيصدقوه و بينفذوله مطالبه مرضيين والله، ناس راضية تعيش في المستنقع، و بتصبر نفسها ان الريس ده هيغير، كل واحد ييجي نصبر عليه، هيعمل بس نستني لحد ما بيموتوا و ييجي ولادهم يستنوا. مبحبش اقول هما و هما و اتكلم عنهم بالمنظر ده، في نظري يظلوا غلابة و مغفلين _وكلنا مغفلين بدرجة ما_ و مضحوك عليهم، مقدرش الوم عليهم، بس في نقطتين وصلتلهم بعد التفكير في التجارب و القصص دي.
1) ان مفيش تغيير هيحصل طول ما الناس مستنفرة ضد التغيير و ضد الثورة، مش هيحصل ان ثورة تنجح و نص الشعب "مواطنين شرفاء"، الناس دي لازم تتعلم و تفهم و تتوعى، الناس دي لازم تبقي في صفنا، لو مأمكنش يبقي ع الاقل يقفوا ع الحياد ميجوش علينا.
و لو اني اعتقد ان الناس دي بمجرد ما تتوعي و تفهم حقوقها و تعرف حقيقة كوم الزبالة اللي كلنا عايشين فيه الناس دي هتتحرك لوحدها، مش هتحتاج زقة ولا دفعة ولا حد يقولهم ثوروا و اعملوا. و عشان كده كنت مؤيد للناس اللي قالت اننا لازم نعلم الناس و نعرفهم حقوقهم، و كذلك الاجيال اللي بتتعلم و الاجيال اللي هتلتحق بالتعلم في القريب العاجل دول ثروة احنا بنهملها والله، دول ممكن يبقوا وقود و قادة لتغيير في المستقبل، و استغربت جدا صراحةً الناس اللي سخرت من فكرة نشر الوعي و توعية الناس بالواقع و الحقوق و الواجبات، مش عارف فين المنطق في الكلام ده. يعني التغيير مش هيحصل بقلة من الناس، و لو حصل هيسهل جدا الانقلاب عليهم من الكثرة الغير واعية، اعتقد انهم محتاجين يفكروا في الموضوع ده تاني.
2) اللي هيحارب عشان الناس هييجي يوم يشتمهم بالاب و الام و هوه قاعد في بيتهم ع الكنبة عشان خذلوه و طلعوا " شرفاء"، انا معرفش يعني ايه احارب عشان الناس اصلا، بس هيا الحرب بتبقي عشان مبادئ و اهداف عليا، و لو مبدأك مقدس و سامي بالنسبالك مش هيهمك مين في صفك و مين خذلك، حولوا بوصلتكم للمبدأ يا جماعة، و اسأل نفسك انت ليه بتحارب عشان الناس دي اصلا؟ هتقول عشان حقهم يعيشوا بكرامة و حرية يبقي ده مبدأك، انت بتحارب للحرية مش للناس، مش كل الناس هتفرح بالحرية و مش كل الناس عايزاها، في ناس هتحاربك و هتحبطك و هتوصلك للي انت فيه دلوقتي من اليأس و التخاذل عن كل حاجة انت كنت مؤمن بيها في يوم. المبدأ يا جماعة فوق الأشخاص.
و دي مش مثالية للناس اللي هتقول اننا خلاص عدينا مرحلة المثاليات، فكرة انك تتمسك بمبدأ ده المفروض للطبيعي بتاع البني آدمين، مش رفاهية و مش مثالية. ده أبسط المفاهيم اللي المفروض عند البني آدم السوي.
في نقطتين كمان بس ممكن يبقوا في موضوع تاني بقي ان شاء الله ، كفاية كده.
اتمني يكون حد هيقرا الكلام ده، اتمني ان الكلام يكون ليه لزمة اصلا، و لو لشخص واحد،
يا رب ميكونش ع الفاضي.